حينَ يَهْزم البَارُودُ الوَرْدَةَ


xxxxxxxxxxxxxxxx

كُنتُ في أَوَّلِ رَيْعَانِ شَبَابِي، حِينَ بَدَأتُ أَكْتَشِفُ أَنَّنِي أَنْجَذِبُ لِرَائِحَةِ البَارُودِ وَلَبُوسِ الحَرْبِ أَكْثَرَ مِمَّا أَنْجَذِبُ لِعِطْرِ الحَسْنَوَاتِ وَلُبُوسِ الحَرِيرِ..


شَيْءٌ مَا فِي صُفُوفِ الجَيْشِ، وَشَظَفِ العَيْشِ، وَسَيْرِ السِّلَاحِ، وَغَزْوِ الصَّبَاحِ؛ يُوقِظُ فِي دَاخِلِي مَا لَا تَقْدِرُ عَلَى إِيقَاظِهِ ابْتِسَامَةٌ نَاعِمَةٌ أَوْ طَرْفٌ كَحِيلٌ..


وَكَمْ هَفْوَةٍ لِلْقَلْبِ تُغْفَرُ لِلْفَتَى *** إِذَا كَانَ فِي وَقْعِ المَنَايَا صَبُور


رُبَّمَا كَانَتِ السِّهَامُ الَّتِي أَحْبَبْتُهَا، لَا العُيُونُ النَّاعِسَةُ، وَرُبَّمَا كَانَ سِلَاحِي مِرْآةً دَقِيقَةً لِصِفَات في شَخْصِيَّتِي، كَصَمْلَتِي عِندَ المُوَاجَهَةِ، وَصَوْلَتِي عِندَ التَّحَدِّي، وَثَبَاتِي حِينَما يَتَسَاقَطُ مِنْ حَوْلِي كُلُّ شَيْءٍ..


أَوِ امْتِدَادٌ لِقَوَادِحَ صَغِيرَةٍ كَانَتْ كَامِنَةً فِي أَعْمَاقِ طُفُولَتِي، نَمَتْ وَتَضَخَّمَتْ مَعَ الأَيَّامِ كَمَا يَنْمُو جَسَدِي..


هِيَ كَتِلْكَ الَّتِي وَجَدْتُّ شَكْلَهَا فِي أَدَوَاتِ القِتَالِ أَكْثَرَ مِنْ دِفْءِ سَرِيرِي..


لَا أَعْلَمُ لِمَاذَا كَانَتْ صَبِيحَةُ المُعَسْكَرِ أَجْمَلَ مِنْ صَبِيحَةٍ فِي حِضْنِ حَسْنَاءَ.. كَأَنَّ الحَصَى، وَالعَرَقَ، وَالنِّدَاءَ الصَّبَاحِيَّ، وَالحَدِيدَ، وَأَصْوَاتَ الرَّصَاصِ وَالقَذَائِفِ مِنْ حَوْلِي يُعَزِفُونَ مُوسِيقَى أَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ أَسْمَعْهَا، أَفْهَمُهَا، أَنْتَمِي إِلَيْهَا، وَأَحِنُّ لَهَا مَعَ طُلُوعِ الفَجْرِ..


تُطْرِبُنِي تِلْكَ الفَوْضَى الصَّاخِبَةُ.. كَأَنَّهَا نَشِيدٌ أَعْرِفُهُ، يُوقِظُ فِي دَاخِلِي شَيْئًا مَنْسِيًّا، لَمْ أَعُدْ أُمَيِّزْ فِيهِ إِنْ كُنْتُ أَسْمَعُهُ، أَمْ أَتَذَكَّرُهُ..


تُطْرِبُنِي رَغْمَ قَسْوَتِهَا، كَأَنَّ لِكُلِّ انْفِجَارٍ نَغْمَةً، وَلِكُلِّ ارْتِجَاجٍ لَحْنًا أَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ..


تُطْرِبُنِي كَمَا يُطْرِبُ المَجْنُونَ هَمْسُ عَقْلِهِ، حِينَ لَا يَجِدُ مَنْ يَفْهَمُهُ غَيْرُ صَدَى الرَّصَاصِ..


نَعَمْ كَانَتْ مُطْرِبَةً كَأُغْنِيَةٍ حَزِينَةٍ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا مَنْ جَرَّبَهَا..


كَأَنَّهَا تَرْتِيلٌ يَعْرِفُ كَيْفَ يُرَاقِصُ القَلْبَ عَلَى حَافَّةِ الِانْهِيَارِ..


لَقَدْ كَانَتْ مُطْرِبَةً كَعِوَاءِ الذِّئْبِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، تُخِيفُكَ وَتُؤْنِسُكَ فِي آنٍ وَاحِدٍ..


كُنْتُ أُزَيِّتُ سِلَاحِي بِشَغَفٍ لَمْ أَجِدْهُ حَتَّى حِينَ أُهْدِيتُ قَلْبِي..


كُنْتُ أَعْرِفُ كَيْفَ أَفْتَحُ مَاسُورَةَ السِّلَاحِ بِجَدَارَةٍ، وَكَيْفَ أُنَظِّفُ مَخْزَنَ الذَّخِيرَةِ وَأُعِيدُ تَعْبِئَتَهَا مِنْ جَدِيدٍ..


كَيْفَ أَتَنَفَّسُ بِبُطْءٍ لِأُصِيبَ الهَدَفَ..


هَلْ كَانَ السِّلَاحُ يُشْبِهُنِي!

صَلْبٌ كَصَلَابَتِي!

صَامِتٌ وَحَاسِمٌ.. كَكُتُومٍ وَصَارِمٍ..

لَا يُجِيدُ التَّعْبِيرَ بِالكَلَامِ، لَكِنْ أَفْعَالُهُ تَتَحَدَّثُ..

دَقِيقٌ مُنْضَبِطٌ..

خَطِرٌ، يَنْبَغِي أَنْ تَتَعَامَلَ مَعَهُ بِحَذَرٍ، خَطَأٌ وَاحِدٌ كَفِيلٌ بإنْهَاءِ الحِكَايَةِ..

يَفْتِكُ بِالهَدَفِ مُنْذَ الوَهْلَةِ الأُولَى..

إِذَا احْتَدَمَ سَاخِنٌ جِدًّا..

لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَفَاوَضَ مَعَ الزِّنَادِ، فَقَطْ سَبَابَةٌ جَاهِزَةٌ.. وَهَدَفٌ مُسَدَّدٌ..

لَكِنَّنِي حِينَ وَقَفْتُ أَمَامَهَا، تَلَعْثَمْتُ، ارْتَبَكْتُ، شَعَرْتُ أَنِّي فِي سَاحَةِ قِتَالٍ لَا أَمْلِكُ فِيهَا أَيَّ سِلَاحٍ..

فَهَلْ أَنَا عَاشِقٌ لِلْحَرْبِ؟ أَمْ خَائِفٌ مِنَ الحُبِّ؟


هَلْ وَجَدْتُ فِي القِتَالِ مِرْآةً لِذَاتِي الَّتِي لَمْ أَفْهَمْهَا، أَمْ هَرَبْتُ مِنْ ضَعْفِ الإِنْسَانِ إِلَيْهَا؟


رُبَّمَا لَمْ أَجِدْ إِجَابَةً!

وَرُبَّمَا لَا تُوجَدُ إِجَابَةٌ!

وَرُبَّمَا لَيْسَ هُنَاكَ إِجَابَةٌ!

وَرُبَّمَا كَانَتِ الحَرْبُ رُومَانْسِيَّةً لَكِنْ بِطَرِيقَتِهَا الخَاصَّةِ..

لِأَنَّهَا تَكْشِفُنَا، وَتُعَرِّينَا.. تَضَعُنَا عُرَاةً أَمَامَ ذَوَاتِنَا، فَلَا يَبْقَى سِوَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ حَقًّا..

فِي الحَرْبِ لَا وُجُودَ لِلأَقْنِعَةِ..

سُقُوطُ قَذِيفَةٍ وَاحِدَةٍ بِجِوَارِكَ كَفِيلٌ بِإِسْقَاطِ جَمِيعِ الأَقْنِعَةِ..

تِلْكَ اللَّحْظَةُ لَا تُبْقِي سِوَى الصِّدْقِ وَالتَّلْقَائِيَّةِ وَالمَعَانِي الذَّابِلَةِ مِنْ طُفُولَتِكَ..


فِي مَكَانٍ يُفْتَرَضُ أَنْ يَكُونَ المَوْتُ فِيهِ حَاضِرًا بِكُلِّ خُطْوَةٍ، وَجَدْتُ نَفْسِي حَيًّا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ..

لَا أَقْصِدُ بِالحَيَاةِ أَنْ أَتَنَفَّسَ فَقَطْ، بَلْ أَنْ أَشْعُرَ بِوُجُودِي، أَنْ أَنْتَمِي، أَنْ أُرَى كَمَا أَنَا مِنْ دُونِ أَقْنِعَةٍ.. وَمِنْ دُونِ تَصَنُّعٍ.. بِتَلْقَائِيَّةٍ وَعَفَوِيَّةٍ..

أَنْ أَعْرِفَ مَنْ أَنَا وَلِمَاذَا وُجِدْتُ فِي الحَيَاةِ، وَمَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ..

فِي المُعَسْكَرِ الأَوَّلِ، تَحْتَ سَمَاءٍ خَرِيفِيَّةٍ عَلِيلَةٍ، وَبَيْنَ رِفَاقٍ يَخْتَلِفُونَ عَنِّي فِي اللِّسَانِ وَالمَكَانِ، أَكَلْنَا مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، تَقَاسَمْنَا التَّعَبَ، وَذَابَتْ بَيْنَنَا المَسَافَاتُ وَالثَّقَافَاتُ وَاللُّغَاتُ وَالعَادَاتُ … الخ..

لَمْ أَكُنْ بَيْنَهُمْ مُنَاضِلًا فَقَطْ، بَلْ أَخًا فِي الأَلَمِ وَالمَصِيرِ..

هُنَاكَ فَهِمْتُ الحَقِيقَةَ الَّتِي لَمْ أَجِدْهَا بَيْنَ أَقَارِبِي:

أَنَّ الأَلَمَ المُشْتَرَكَ يَصْهَرُ الأَرْوَاحَ، وَيَجْمَعُ مَا لَا يَجْمَعُهُ الدَّمُ وَحْدَهُ..

كَأَنَّ عُرُوقَ السِّلَاحِ أَقْوَى تَرَابُطًا مِنْ عُرُوقِ الدَّمِ..


فِي الحَرْبِ، رَأَيْتُ الوُجُوهَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَأَحْسَسْتُ أَنِّي إِنْسَانٌ يُحِسُّ وَيُحَسُّ بِهِ..

وَإِنْ سُئِلْتُ: لِمَاذَا أُحِبُّ الحَرْبَ؟


لَقُلْتُ: لِأَنَّهَا المَكَانُ الوَحِيدُ الَّذِي وَجَدْتُ فِيهِ مَا أَصْبُو إِلَيْهِ، وَلَمْ أَشْعُرْ فِيهَا بِالغُرْبَةِ..