عُيُونُ الْبَلَاءِ


تَظُنُّ أَنَّهَا عَيْنَانِ فِي رَأْسِكَ فَقَطْ..


لَكِنْ تَتَفَاجَأُ بَعْدَ رِيَاحِ الْبَلَاءِ أَنَّهَا عَشْرُ عُيُونٍ كَانَتْ نَائِمَةً.. وَأَجْفَانٌ كَانَتْ مُغْلَقَةً! لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ!


هُنَاكَ الْعَشَرَاتُ مِنَ الْحَوَاسِّ الَّتِي اسْتَيْقَظَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَائِمَةً، أَوْ بَعَثَهَا اللَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَيِّتَةً! أَوْ أَنْشَأَهَا مِنْ عَدَمٍ!

 

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

 

وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ

وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ

 

فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ

أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ

 

بَعْدَ أَنْ هَدَأَتِ الْعَاصِفَةُ..

وَبَقِيَتْ أَصْوَاتُ الْغَرَابِيلِ الْخَاوِيَةِ عَلَى حَرَكَةِ هَوَاءِ الْمَشْرِقِ!

أَشْعُرُ كَأَنَّنِي اسْتَيْقَظْتُ أَوْ بُعِثْتُ مِنْ نَوْمٍ عَمِيقٍ؛ وَتَفَتَّحَتْ لِيَ عَشْرُ عُيُونٍ بَلْ أَكْثَرَ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ.. وَحَوَاسٌّ جَدِيدَةٌ لَمْ تَكُنْ لَدَيَّ.. أَصْبَحْتُ أَرَى أَبْعَادًا مُخْتَلِفَةً لِكُلِّ شَيْءٍ عَنِ السَّابِقِ.. مَرَايَا أَمَامِي تَعْكِسُ الْكَثِيرَ مِنَ الْجِهَاتِ وَالْمَشَاهِدِ الَّتِي لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا مِنْ قَبْلُ..

 

لَقَدْ تَغَيَّرَتِ الْأَحْكَامُ وَالْأَحْلَامُ بَعْدَ هَذَا الْبَعْثِ مِنَ الْبَلَاءِ..

نَزَلَ شَيْءٌ فَتَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ!

 

وَفِي هَذَا السِّيَاقِ أَتَذَكَّرُ سُؤَالَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ…" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

 

إِذَنْ فَالْبَلايَا لَيْسَتْ عَشْوَائِيَّةً، بَلْ مَقَادِيرُ إِلَهِيَّةٌ تُعْطَى بِقَدَرِ الْقُلُوبِ..

هِيَ لَيْسَتْ عَذَابًا بِقَدْرِ مَا هِيَ عِنَايَةٌ مَخْفِيَّةٌ، وَصِيَاغَةٌ خَفِيَّةٌ..

إِنَّكَ فِي الْبَلَاءِ لَا تُعَذَّبُ فَحَسْبُ، بَلْ تُصَاغُ كَمَا يُصَاغُ الذَّهَبُ فِي يَدِ الصَّائِغِ، تَمُرُّ عَلَى حَرَارَةِ التَّجْرِبَةِ لَا لِتَذُوبَ، بَلْ لِتَصْفُوَ..

تُزَالُ الشَّوَائِبُ الَّتِي كَانَتْ تُغَلِّفُكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ، حَتَّى تَعُودَ خَالِصًا، نَقِيًّا، لَامِعًا بَرَّاقًا كَمَا أَرَادَكَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ..

 

وَمِنْ عُيُونِ الْبَلَاءِ: أَنَّكَ تَرَى مَنَاطِقَ جَدِيدَةً مِنْ نَفْسِكَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ..

تَسْمَعُ صَوْتَ فِطْرَتِكَ وَهِيَ تَقُولُ:

"كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ تُبْصِرُ، وَالحَقِيقَةُ أَنَّكَ كُنْتَ تَعِيشُ بِأَقَلِّ مِنْ عُشْرِ بَصِيرَتِكَ."

 

وَتَتَذَكَّرُ آيَةً كَانَتْ تَمُرُّ بِكَ سَرِيعَةً، فَإِذَا بِهَا الآنَ تَسْكُنُكَ:

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ٢١]

وَكَأَنَّكَ تَقْرَؤُهَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ.

الْبَلَاءُ يَكْشِفُ لَكَ النِّعَمَ الَّتِي كُنْتَ تَمْشِي فَوْقَهَا وَلَا تلْحظهَا..

الصِّحَّةُ، دِفْءُ الْبَيْتِ، الأَمَانُ، الْقُدْرَةُ عَلَى السُّجُودِ، حَتَّى مُجَرَّدُ التَّنَفُّسِ دُونَ أَلَمٍ..

وَيُوقِظُ فِيكَ الشُّكْرَ الصَّادِقَ لَا عَلَى مَا أُعْطِيَ، بَلْ حَتَّى عَلَى مَا أُخِذَ بِلُطْفٍ..

وَتَسْمَعُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا مِنْ عَلَى عَرْشِ مِصْرَ، بَلْ مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ، يَقُولُ لَكَ:

{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يُوسُفَ: ٩٠]

فَتُدْرِكُ أَنَّ السُّقُوطَ أَحْيَانًا طَرِيقُ الصُّعُودِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ صَنِيعًا.

 

وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ – رَحِمَهُ اللَّهُ –:

"لَوْلَا مَصَائِبُ الدُّنْيَا لَوَرَدْنَا الْقِيَامَةَ مَفَالِيسَ!"

 

وَيَأْتِيكَ حَدِيثُ الحَبِيبِ ﷺ يُرَبِّتُ عَلَى قَلْبِكَ:

"عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ…"

لِأَنَّهُ يَرَى بِعَيْنٍ أُخْرَى، وَيَسْمَعُ بِحِسٍّ لَمْ يُولَدْ إِلَّا مِنْ رَحِمِ الْبَلَاءِ.

 

هَكَذَا إِذًا، حِينَ تَقَعُ فِي الْبَلَاءِ، لَا تَنْكَسِرْ.. بَلْ تَتَفَتَّحُ فِيكَ عُيُونٌ جَدِيدَةٌ،

تُبْصِرُ بِهَا مَا لَا تَرَاهُ فِي الرَّخَاءِ، وَتَفْهَمُ بِهَا حِكَمًا لَمْ تُكْتَبْ إِلَّا لَكَ.