سِرُّ العَقْدِ مِنَ الزَّمَان
سِرُّ العَقْدِ مِنَ الزَّمَانِ..
دَوْرَةُ التَّحَوُّلِ المَجْهُولَةِ..
لِمَاذَا تَتَغَيَّرُ المَوَازِينُ كُلَّ عَشْرِ سَنَوَاتٍ تَقْرِيبًا؟
فِي بَدَايَةِ الأَمْرِ كُنْتُ أُرَاقِبُ الحَيَاةَ بِصَمْتٍ..
أُلاَحِظُ لا مِنْ زَاوِيَةِ لَحْظَةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ مِنْ نَافِذَةٍ بَعِيدَةٍ تُطِلُّ عَلَى سَنَوَاتٍ مَضَتْ، وَسَنَوَاتٍ تَمْضِي، وَسَنَوَاتٍ قَادِمَةٍ، وَكُلُّ هَذَا عَلَى مَشَاهِدَ تَكَرَّرَتْ بِأَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ.. وَيَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِي أَيُّ اسْمٍ فِي المَشْهَدِ القَادِمِ سَأَكُونُ!
شَدَّتْنِي مُلاحَظَةٌ غَرِيبَةٌ، لَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَكَرَّرُ بِإِلْحَاحٍ يَدْعُو لِلتَّأَمُّلِ وَالمُلاحَظَةِ:
كُلُّ عَشْرِ سَنَوَاتٍ تَقْرِيبًا، تَدُورُ الدُّنْيَا دَوْرَتَهَا..
يَحْدُثُ أَحْيَانًا أَنْ تَقِفَ عَلَى شُرْفَةِ الزَّمَنِ، وَتُلْقِي نَظْرَةً عَلَى الوَرَاءِ، فَتُفَاجَأَ: كَيْفَ تَغَيَّرَتِ الدُّنْيَا؟! كَيْفَ اخْتَلَفَتِ الأَسْمَاءُ، وَتَبَدَّلَتِ الوُجُوهُ، وَتَنَاوَبَتِ الأَدْوَارُ؟! مَنْ كَانَ بِالأَمْسِ فِي القِمَّةِ، بَاتَ فِي الظِّلِّ اليَوْمَ. وَمَنْ كَانَ عَلَى الهَامِشِ، أَصْبَحَ فِي قَلْبِ المَشْهَدِ.
لَيْسَ الأَمْرُ مُصَادَفَةً وَلا فَلْتَةً مِنْ فَلَتَاتِ القَدَرِ، بَلْ هُوَ — كَمَا يَبْدُو — قَانُونٌ خَفِيٌّ يَسْرِي فِي النَّاسِ وَالأَشْيَاءِ مِنْ حَوْلِهِمْ قَضَاءٌ نَافِذٌ مِنْ دُونِ اسْتِئْذَانٍ..
لَقَدْ تَأَمَّلْتُ كَثِيرًا فِي حَرَكَةِ الحَيَاةِ، حَتَّى بَدَتْ لِي وَكَأَنَّهَا تَدُورُ بِدَوَرَاتٍ زَمَنِيَّةٍ مَرِنَةٍ، غَالِبًا مَا تَسْتَغْرِقُ عَشْرَ سَنَوَاتٍ تَقْرِيبًا.. وَقَدْ تَزِيدُ أَوْ تَنْقُصُ، لَكِنَّهَا تَدُورُ فِي هَذَا الحَيِّزِ كَكُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ تَحْمِلُ الفَارِقَ، وَكَأَنَّهَا تَسْتَجْمِعُ فِي هَذِهِ المُدَّةِ أَسْبَابَ التَّبَدُّلِ وَالتَّحَوُّلِ، وَتَتَهَيَّأُ لانْقِلابٍ جَدِيدٍ..
العَشْرُ سَنَوَاتٍ: لَيْسَتْ رَقْمًا دَقِيقًا، بَلْ نُضْجٌ زَمَنِيٌّ
أَيْ لَيْسَتِ "العَشْرُ" هُنَا حَدًّا صَارِمًا، بَلْ هِيَ وَحْدَةٌ زَمَنِيَّةٌ رَمْزِيَّةٌ، تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا مَا يَكْفِي مِنَ الوَقْتِ لِتَرَاكُمِ التَّجَارِبِ، وَاحْتِرَاقِ العَلاقَاتِ، وَتَبَدُّلِ المَصَالِحِ، وَظُهُورِ جِيلٍ جَدِيدٍ مِنَ الطَّامِحِينَ، وَسُقُوطِ جِيلٍ خَارَتْ قُوَاهُ أَوْ غَفَلَ عَنْ حَرَكَةِ الزَّمَنِ..
فِي عَشْرِ سَنَوَاتٍ؛
يَنْشَأُ جِيلٌ اجْتِمَاعِيٌّ جَدِيدٌ.. وَيَخْفُتُ وَهَجُ جِيلٍ مَاضٍ تَارِكًا صَدَاهُ فِي ذَاكِرَةِ الزَّمَانِ، وَكَمَا تَخْفُتُ النَّارُ حِينَ يَنْطَفِئُ الحَطَبُ..
فِي عَشْرِ سَنَوَاتٍ؛
تَنْهَضُ قُوًى؛ وَتَخْبُو أُخْرَى..
يَتَحَوَّلُ الصَّدِيقُ إِلَى غَرِيبٍ، وَالغَرِيبُ إِلَى قَرِيبٍ..
تُهْدَمُ عُرُوشٌ، وَتُبْنَى مَنَابِرُ..
كَأَنَّهَا "الفَتْرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ اللاَّزِمَةُ" لِيَتَغَيَّرَ مِيزَانُ القُوَى فِي العَالَمِ وَبَيْنَ النَّاسِ..
سُنَّةُ التَّبْدِيلِ: الأَيَّامُ لا تَثْبُتُ عَلَى حَالٍ
القُرْآنُ الكَرِيمُ لَخَّصَ هَذَا القَانُونَ فِي قَوْلِهِ:
"وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" (آل عمران: ١٤٠).
إِنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِكْمَةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ إِعْلاَنٌ صَرِيحٌ بِأَنَّ الأَيَّامَ لَهَا طَبِيعَتُهَا المُتَقَلِّبَةُ، وَأَنَّ مَن فِي الأَعْلَى اليَوْمَ، قَدْ لا يَمْلِكُ ضَمَانَ البَقَاءِ غَدًا..
وَفِي سِيَرِ التَّارِيخِ، لا نَجِدُ سُلْطَانًا اسْتَمَرَّ عَلَى ذَاتِ المَجْدِ لِعُقُودٍ دُونَ أَنْ تَهْتَزَّ أَرْكَانُهُ، وَلا مُفَكِّرًا بَقِيَ فِي ذُرْوَةِ تَأْثِيرِهِ دُونَ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يُنَافِسُهُ أَوْ يَتَجَاوَزُهُ..
قَانُونُ التَّرَاكُمِ الخَفِيِّ..
مَا يَحْدُثُ خِلالَ هَذِهِ السَّنَوَاتِ لَيْسَ مَرْئِيًّا دَائِمًا..
لَكِنَّهُ مُلاحَظٌ..
هُنَاكَ مَا يُبْنَى فِي الظِّلاَلِ، وَهُنَاكَ مَا يَتَآكَلُ فِي العَلَنِ دُونَ أَنْ نَشْعُرَ..
المُبْدِعُ الَّذِي يُطَوِّرُ مِنْ نَفْسِهِ بِصَمْتٍ، وَيَسْتَمِرُّ بِالبِنَاءِ حَتَّى يَظْهَرَ فَجْأَةً فِي صُورَةِ النُّضْجِ الكَامِلِ..
وَالْمُتَّكِئُ عَلَى أَمْجَادِهِ القَدِيمَةِ، يَتَهَاوَى فَجْأَةً لَكِنَّ الحَقِيقَةَ أَنَّهُ بَدَأَ السُّقُوطَ مُنْذُ زَمَنٍ، وَلَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ إِلَّا فِي السَّاعَةِ الأَخِيرَةِ الَّتِي لا تَحْمِلُ مَا يَكْفِي مِنَ الذَّخَائِرِ لإِنْقَاذِهِ..
التَّحَوُّلُ سُنَّةٌ لا اسْتِثْنَاءَ..
كُلُّ مِنَّا إِمَّا فِي بَدَايَةِ دَوْرَةِ صُعُودٍ، أَوْ فِي وَسَطِ دَوْرَةِ تَآكُلٍ، أَوْ عِنْدَ حَافَّةِ تَحَوُّلٍ..
وَالمِفْتَاحُ أَنْ نُدْرِكَ؛ أَنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ ثَابِتًا عَلَى حَالٍ، وَلا مُحَايِدًا كَمَا تَنْظُرُ..
بَلْ هُوَ يَعْمَلُ فِينَا حَتَّى لَوْ لَمْ نَعْمَلْ فِيهِ، وَيُبَدِّلُنَا وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّنَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ..
(عَدَمٌ، طُفُولَةٌ، شَبِيبَةٌ، شَيْخُوخَةٌ، مَوْتٌ…)
خَاتِمَةٌ؛ عِشْ وَعْيَكَ الزَّمَنِيَّ بِدِقَّةٍ تَقِيكَ النَّدَمَ..
رَاقِبِ العَشْرَ سَنَوَاتٍ القَادِمَةِ، كَمَا رَاقَبْتَ العَشْرَ الَّتِي مَضَتْ..
اِسْأَلْ نَفْسَكَ:
أَيْنَ كُنْتَ؟
وَأَيْنَ أَصْبَحْتَ؟
وَأَيْنَ سَيَكُونُ غَيْرُكَ بَعْدَ عَشْرٍ؟ وَأَيْنَ سَتَكُونُ أَنْتَ؟
فَقَدْ لا تَبْقَى القِمَمُ لِمَنْ بَلَغَهَا، وَلا تَسْتَمِرُّ القِيعَانُ لِمَنْ نَزَلَهَا..
إِنَّمَا هِيَ دَوْرَةُ التَّحَوُّلِ، تَسْرِي فِي كُلِّ شَيْءٍ.. بِقَدَرٍ، وَصَبْرٍ، وَتَحَوُّلاتٍ لا يَرَاهَا إِلَّا مَنْ يَقْرَأُ الزَّمَنَ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ..