لا تتحدث العرنجية



فاطمة الشمري

كلمات كثيرة نتلقاها كل يوم وأساليب نسمعها فنأنس ببعضها، وننفر من الآخر ، فكم مرة سمعت كلمة "حرفيًا" بحديث، وكم مرة قرأت تغريدة فيها "هذا الحدث صنع يومي"؟ أو لمحت الرسم ، بقراءة رواية ما تعبير "سوف"؟ ، ألا يدور في نفسك كيف شاعت وانتشترت تلك المفردات؟ 


هذه التساؤل العابر يفتح بابًا إلى تساؤل أكبر، ونحن نحتفي باليوم العالمي للغة العربية من كل

عام عن حال عربية اليوم، التي تأثرت بعوامل عديدة وما إن كانت شبيهة بالعربية القديمة؟ أو باعدت العصور بينهما وخضعت لسنة التغير. 

يعرض الترجمان أحمد الغامدي بشيء من التفصيل والإبانة هذه المسألة في كتابه:"العرنجية، بلسان عربي هجين"


غاية الكتاب الكلام عن اللغة العربية في عصرنا أو «الفصحى المعاصرة» كما يسمونها،وتبيين فسادها ومباعدتها عن أساليب العربية النقية، فهي لغة مذبذبة؛ عربي ظاهرها،إفرنجي باطنها.

في بادئ الأمر اعتقدت أن الكتاب أحد كتب "قل ولا تقل" أو التي تبين الكلمات الأجنبية الأصل، تلك التي تفشت في حديثنا اليومي مثل: "أوكي، وكلاس، وويكند" وغيرها، غير إنه يعرض لعجمة طغت بين الأدباء وأرباب العربية منذ عام 1250 هـ، عندما ابتُعِث كثيرٌ من الطلاب إلى بلاد الإفرنج ليتعلموا فيها، ومع ازدهار الترجمة عن كتب الإفرنج، فترجموا منها شيئًا كثيرًا جدًا، في علوم كثيرة وصارت هذه هي الكتب التي تُدرّس لتلاميذ البلاد. وهذه الكتب لا تباعد النص الإفرنجي الذي نُقلت عنه. وقد وصلت آثارها إلى وقتنا الحاضر، ويؤكِّد الكتاب أن ذلك التفرنج لم يأتِ من العامة وحدهم، بل هو في غالبيته من أساتذة العربية وأربابها وكبار كتابها الذين يُظن بأن كتاباتهم عربية نقية.

وقد بدأ أول فصول الكتاب بتبيان معنى العربية المعاصرة ولزوم الناس الكلام العربي الفصيح على اختلاف ألسنتهم وبلادهم، فمهما باعدت الأقطار بينهم فإنهم على حد قوله: "لزموا الفصيحة في كتاباتهم قاطبة، يأخذها الخلف عن السلف، يتفاوتون في عذوبة كلامهم، ويتفاضلون فيبلاغتهم، إلا أن ذلك كتفاضل أهل البلد الواحد، ولغتهم هي هي"

 وإن أصل العربية التي دونوا بها أبواب من العلم مختلفة، وأغراض متنوعة من حوادث عصورهم وخصائص بلدانهم، عائد إلى العربية التي كانت على ألسن العرب عند نزول القرآن، وما حملهم على ذلك إلا الحرص حتى لا ينقطع السبب بينهم وبين كتاب الله وسنة نبيه .

مؤكِدًا على أن ثباتهم من المحامد لا المذمات، وهذا الثبات يستدعي نبذ التدوين باللسان العامي، كما في قوله: "وهذا الثبات لو تأملت من مفاخر أمة الإسلام، وحقيق أن نُغبط عليه، وكيف لا نغبط والنبي ﷺ يجالس الصحابة قبل ألفِ وأربعمئة سنة فيحدثهم بحديث، فنفهمه نحن، ويؤلف ابن حزم كتابًا في الحب قبل ألف سنة فنستملحه ونفهمه كأنَّا من أهل زمانه، ويؤلف بعض العلماء في بلاد العجم، كالخوارزمي، والبيروني، وابن سينا، في المئة الثالثة والرابعة والخامسة شيئا في علوم الدنيا فنفهمه، ويؤلف ابن الكتبي كتابًا في الطب قبل سبعمئة سنة، فلا يشق علينا منه شيء، ويذكر الغزال رحلته إلى إسبانية قبل مئتين وخمسين سنة، فنفهم كلامه كله، ولا يدخل في هذه المحمدة الآخذون باللسان العرنجي".

وإن كل هذه الجهود المبذولة للحفاظ على عربية سليمة تابعة لأساس أنها ديانة، " فكيف يتدبر القرآن حقيقةً إلا من خالطت العربيةُ نفسَه، ولا تكون هذه المخالطة إلا بكثرة ورود اللغة على النفس إما سماعًا وإما قراءةً، وأما من تعوَّد لغة العصر العرنجية فإنما يجعل بينه وبين القرآن حجابًا".

كما حوت صفحات الكتاب تفنيد عدة مزاعم عند من استحلَوا العرنجية والرد عليها، ومن ذلك:

هل هذا التبدل في العربية ضرورة لتتماشى مع أحوال العصر؟

فهذا مزعم باطل، فأكثر ما في العرنجية من تراكيب واستعمالات من المعاني التي عبرت عنها العرب قديمًا حتى ما قبل الإسلام، "وهي لا تزاد في العربية لنقصٍ فيها وإنما تأتي على الأصل العربي -الذي يكون في القرآن والسنة وكلام العرب- وتميته، ثم تجعل محله شيئًا إفرنجيًا" مثال ذلك: القول: «يبدو كما لو كان» فهو في قول الإنجليز: «seems as if he was» فعبرت عنه العرب بـ«كأن». 

فهل يسرت العرنجية اللغة للمتقدمين وقربتها من أذهان الناس ونفيت وعورة الفصيحة وتكلفها؟

وجواب ذلك أن الأوائل بالأصل ذموا من يُكثر من استعمال الغريب ويتكلفه، والناس لم يستسهلوا العرنجية لسهولتها وإنما لتعودهم عليها وألفتهم لها، "فإن أكثر ما بأيدي الناس من كتب المدارس، وما يتداولونه من كتب الوعظ والإرشاد، وتهذيب النفوس والفلسفة، إنما كُتِب بالعرنجية، لا الفصيحة، وأكثر الكراتين التي يشاهدها الصبيان إنما هي بالعرنجية، ووحديثها عرجني الروح ليس له من العربية إلا صورة اللفظ. ولهذا استوحشت نفوس الناس من الكلام الفصيح الناصع، واستوعروه لا لوعورة فيه، وإنما لقلك معاناتهم له".